سورة المدثر - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المدثر)


        


{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: المدثر، أصله المتدثر، وهو الذي يتدثر بثيابه لينام، أو ليستدفئ، يقال: تدثر بثوبه، والدثار اسم لما يتدثر به، ثم أدغمت التاء في الدال لتقارب مخرجهما.
المسألة الثانية: أجمعوا على أن المدثر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في أنه عليه الصلاة والسلام لم سمي مدثراً، فمنهم من أجراه على ظاهره وهو أنه كان متدثراً بثوبه، ومنهم من ترك هذا الظاهر، أما على الوجه الأول فاختلفوا في أنه لأي سبب تدثر بثوبه على وجوه:
أحدها: أن هذا من أوائل ما نزل من القرآن، روى جابر بن عبد الله أنه عليه الصلاة والسلام قال: كنت على جبل حراء، فنوديت يا محمد إنك رسول الله، فنظرت عن يميني ويساري، فلم أر شيئاً، فنظرت فوقي، فرأيت الملك قاعداً على عرش بين السماء والأرض، فخفت ورجعت إلى خديجة، فقلت: دثروني دثروني، وصبوا علي ماء بارداً، فنزل جبريل عليه السلام بقوله: {يأَيُّهَا المدثر}.
وثانيها: أن النفر الذين آذوا رسول الله، وهم أبو جهل وأبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل اجتمعوا وقالوا: إن وفود العرب يجتمعون في أيام الحج ويسألوننا عن أمر محمد، فكل واحد منا يجيب بجواب آخر، فواحد يقول: مجنون، وآخر يقول: كاهن، وآخر يقول: شاعر، فالعرب يستدلون باختلاف الأجوبة على كون هذه الأجوبة باطلة، فتعالوا نجتمع على تسمية محمد باسم واحد، فقال واحد: إنه شاعر، فقال الوليد: سمعت كلام عبيد بن الأبرص، وكلام أمية بن أبي الصلت، وكلامه ما يشبه كلامهما، وقال آخرون كاهن، قال الوليد: ومن الكاهن؟ قالوا: الذي يصدق تارة ويكذب أخرى، قال الوليد: ما كذب محمد قط، فقال آخر: إنه مجنون فقال الوليد: ومن يكون المجنون؟ قالوا: مخيف الناس، فقال الوليد: ما أخيف بمحمد أحد قط، ثم قام الوليد وانصرف إلى بيته، فقال الناس: صبأ الوليد بن المغيرة، فدخل عليه أبو جهل، وقال مالك: يا أبا عبد شمس؟ هذه قريش تجمع لك شيئاً، زعموا أنك احتججت وصبأت، فقال: الوليد مالي إليه حاجة، ولكني فكرت في محمد. فقلت: إنه ساحر، لأن الساحر هو الذي يفرق بين الأب وابنه وبين الأخوين، وبين المرأة وزوجها، ثم إنهم أجمعوا على تلقيب محمد عليه الصلاة والسلام بهذا اللقب، ثم إنهم خرجوا فصرخوا بمكة والناس مجتمعون، فقالوا: إن محمداً لساحر، فوقعت الضجة في الناس أن محمداً ساحر، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اشتد عليه، ورجع إلى بيته محزوناً فتدثر بثوبه، فأنزل الله تعالى: {يأَيُّهَا المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ}.
وثالثها: أنه عليه الصلاة والسلام كان نائماً متدثراً بثيابه، فجاءه جبريل عليه السلام وأيقظه، وقال: {يأَيُّهَا المدثر قُمْ فَأَنذِرْ} كأنه قال: له اترك التدثر بالثياب والنوم، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله له.
القول الثاني: أنه ليس المراد من المدثر، المتدثر بالثياب، وعلى هذا الاحتمال فيه وجوه:
أحدها: أن المراد كونه متدثراً بدثار النبوة والرسالة من قولهم: ألبسه الله لباس التقوى وزينه برداء العلم، ويقال: تلبس فلان بأمر كذا، فالمراد يأيها المدثر بدثار النبوة قم فأنذر.
وثانيها: أن المتدثر بالثوب يكون كالمختفي فيه، وأنه عليه الصلاة والسلام في جبل حراء كان كالمختفي من الناس، فكأنه قيل: يا أيها المتدثر بدثار الخمول والاختفاء، قم بهذا الأمر واخرج من زاوية الخمول، واشتغل بإنذار الخلق، والدعوة إلى معرفة الحق.
وثالثها: أنه تعالى جعله رحمة للعالمين، فكأنه قيل له: يا أيها المدثر بأثواب العلم العظيم، والخلق الكريم، والرحمة الكاملة قم فأنذر عذاب ربك.
المسألة الثالثة: عن عكرمة أنه قرئ على لفظ اسم المفعول من دثره، كأنه قيل له: دثرت هذا الأمر وعصيت به، وقد سبق نظيره في المزمل.


{قُمْ فَأَنْذِرْ (2)}
في قوله: {قُمِ} وجهان:
أحدهما: قم من مضجعك والثاني: قم قيام عزم وتصميم، وفي قوله: {فَأَنذِرْ} وجهان:
أحدهما: حذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا.
وقال ابن عباس: قم نذيراً للبشر، احتج القائلون بالقول الأول بقوله تعالى: {وَأَنذِرِ} [الأنعام: 51] واحتج القائلون بالقول الثاني بقوله تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} [سبأ: 28] وهاهنا قول ثالث، وهو أن المراد فاشتغل بفعل الإنذار، كأنه تعالى يقول له تهيأ لهذه الحرفة، فإنه فرق بين أن يقال تعلم صنعة المناظرة، وبين أن يقال: ناظر زيداً.


{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)}
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: ذكروا في تفسير التكبير وجوهاً أحدها: قال الكلبي: عظم ربك مما يقوله عبدة الأوثان.
وثانيها: قال مقاتل: هو أن يقول: الله أكبر، روى أنه لما نزلت هذه الآية قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «الله أكبر كبيراً، فكبرت خديجة وفرحت، وعلمت أنه أوحى إليه».
وثالثها: المراد منه التكبير في الصلوات، فإن قيل: هذه السورة نزلت في أول البعث وما كانت الصلاة واجبة في ذلك الوقت؟ قلنا: لا يبعد أنه كانت له عليه السلام صلوات تطوعية، فأمر أن يكبر ربه فيها.
ورابعها: يحتمل عندي أن يكون المراد أنه لما قيل له: {قُمْ فَأَنذِرْ} قيل بعد ذلك: {وَرَبَّكَ فَكَبّرْ} عن اللغو والعبث.
واعلم أنه ما أمرك بهذا الإنذار إلا لحكمة بالغة، ومهمات عظيمة، لا يجوز لك الإخلال بها، فقوله: {وَرَبُّكَ} كالتأكيد في تقرير قوله: {قُمْ فَأَنذِرْ}.
وخامسها: عندي فيه وجه آخر وهو أنه لما أمره بالإنذار، فكأن سائلاً سأل وقال: بماذا ينذر؟ فقال: أن يكبر ربه عن الشركاء والأضداد والأنداد ومشابهة الممكنات والمحدثات، ونظير قوله في سورة النحل: {أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فاتقون} [النحل: 2] وهذا تنبيه على أن الدعوة إلى معرفة الله ومعرفة تنزيهه مقدمة على سائر أنواع الدعوات.
المسألة الثانية: الفاء في قوله: {فَكَبّرْ} ذكروا فيه وجوهاً أحدها: قال أبو الفتح الموصلي: يقال: زيداً فاضرب، وعمراً فاشكر، وتقديره زيداً اضرب وعمراً اشكر، فعنده أن الفاء زائدة.
وثانيها: قال الزجاج: دخلت الفاء لإفادة معنى الجزائية، والمعنى: قم فكبر ربك وكذلك ما بعده على هذا التأويل.
وثالثها: قال صاحب الكشاف: الفاء لإفادة معنى الشرط، والتقدير: وأي شيء كان فلا تدع تكبيره.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8